قيل: إن الكلمات مركباتنا، رحلاتنا الجوية، و أوطاننا في الوقت نفسه، و قيل: "ليس ثمة سفينة كالكتاب" و ما زلت أتذكر فرحتي التي جعلتني أحلق عالياً في سماء البهجة عندما كتبت لي معلمتي النص التالي: "اكتب اكتب، جريمة ألا تكتب" و بعد مرور فترة من الزمن على مقياس النشوة بهذه الوثيقة، أرسلتها بكل فخر عبر الإيميل إلى أحد أساتذتي الأعزاء فكتب لي رداً جاء فيه بعد تهنئتي : "و أنا أقول لك أيضاً اقرأ.. اقرأ أكثر"، و كأنه يقصد العبارة التي تقول: من يكتب يقرأ مرتين.
حقيقة لم يفسد علي بهجتي بهذا التعليق، بل اعتبرته كما لو كان نصاً دستورياً، و جعلتها المادة الأولى في مسار حياتي، فخصصت جُلَّ وقتي للقراءة أكثر من الكتابة، و من يومها و أنا أشعر بالسعادة التي عثرت عليها على سطح الورق، بعد أن بحثت عنها بلا جدوى في أعماق محيطات بعض الملاذات الأخرى.
من الكتب التي تمدني بالسعادة كتاب الله ثم الكتب التي تخاطب الروح و الوجدان، فلا يمكن أن يمر يوم إلا وعلاقتي قائمة مع القراءة.
و كنت كلما رأيت من يتقن القراءة أهرع نحوه بما في يدي ليقرأ لي ما كُتب، و أقف أمامه مثبتاً عيناي و جميع حواسي على فمه، و هو ينطق لي بعض الكلمات، كي أتشبث بمعانيها، ثم أعيد النظر في تلك الكلمات بشيء من الزهو، كوني عرفت معناها أخيراً.
رغم أن شغفي بالقراءة ليس حديث الولادة تزامناً مع نصيحة أستاذي الفاضل، بل إنه أطول عمراً من ذلك.
فقد سبق شغفي بالقراءة دخولي المدرسة الابتدائية، حين كنت أقف بكامل فضول الطفولة و براءتها، متصفحاً كل ما يقع تحت بصري من كتب و مجلات و جرائد و حتى ما يُكتب على علب المواد الغذائية و غيرها.
و لما دخلت المدرسة الابتدائية كنت أكثر الطلاب استعداداً للتلقي، و مع مرور القليل من الوقت كنت أستطيع بالتهجي فك ما اعتبرته طلاسماً معقدة على هيئة حروف و عبارات مخطوطة، و أطير على متنها كي أكتشف العالم.
و تظل القراءة رئتي الثالثة، و وجبتي الرئيسية يومياً، و الكمية الكبيرة من الهواء الذي أتنفسه، و الكتاب هو رفيقي الأول في جميع رحلاتي، رغم امتعاض بعض اصدقائي من ذلك خلال السفر بحجة أننا عازمون على اكتشاف وجهتنا، و لكنني أقول لهم دوماً بل في وجهاتي القرائية ما يسعدني اكتشافه أيضاً.
كذلك كانت علاقتي بالكتابة، فقد كنت أكتب ما لا أعرف معناه، تماماً كما يكتب المرء لغة لا يعلم منها شيئاً، و تَحسَّن بذلك مستواي في التعبير أثناء الدراسة، حتى وصولي لاحقاً إلى تصنيف الكتب، ما عدا خطي الذي أظنني فشلت كثيراً في تجويده حتى اليوم!
و بعد أن كانت تعتريني حالات من الكسل القراءي قمت بترويض نفسي شيئاً فشيئا حتى أصبحت أشعر بالملل عندما لا أقرأ.
لذلك حقاً لا اعلم كيف يستطيع البعض أن يسمح للوقت أن يتسرب من بين يديه دون أن يقرأ، يحدث ذلك معه بحجة أن هذا الكتاب أو ذاك لا يشجعه محتواه على القراءة، و أقول له بكل بساطة: تستطيع أن تضبط بوصلة بحثك نحو الكتب التي تستهويك، فهناك جرعات عظيمة من السعادة في انتظارك خلف غلاف كتاب ما.
لذلك تستطيع بالقراءة أن تكتشف سعة ما حولك من آفاق تتجاوز حجم الكرة الأرضية، و ستجد أن التاريخ لن يستطيع أن يعترض طريقك و أنت تتجه نحو الماضي على متن كتاب، أو تستشرف المستقبل أثناء قراءتك في مثل كتاب "رؤيتي" لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
و ربما تصل إلى المعنى الذي يقول عنه "هنري ملير" و هو يتحدث عن أبطال الأعمال الروائية على سبيل المثال "لقد كانوا أحياء، و كانوا يتحدثون معي".